فصل: الفصل الرابع: تمييز أغلاط البصر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المناظر (نسخة منقحة)



.الفصل الرابع: تمييز أغلاط البصر:

قد تبين في المقالة الثانية أن إدراك البصر للمبصرات يكون على ثلاثة أوجه:
يكون بمجرد الحس ويكون بالمعرفة ويكون بالقياس والتمييز في حال إدراك المبصر.
وإذا كان ذلك كذلك فالمعنى الذي يدركه البصر بمجرد الحس إذا عرض في إدراكه الغلط غلطاً في نفس الإحساس. والمعنى الذي يدركه البصر بالمعرفة إذا عرض في إدراكه الغلط فإنما يكون ذلك الغلط في المعرفة. والمعنى الذي يدرك بالقياس والتمييز في حال الإبصار إذا عرض في إدراكه الغلط فإنما يكون ذلك الغلط غلطاً في القياس والتمييز أو في المقدمات التي بها وقع القياس والتمييز. وقد تبين أيضاً في المقالة الثانية أن الذي يدركه البصر بمجرد الحس هو الضوء بما هو ضوء واللون بما هو لون فقط.
فأما المعاني التي يدركها البصر بالمعرفة والصور التي يدركها البصر بالمعرفة فهي جميع المبصرات المألوفة التي قد تكرر إدراك البصر لها ولأنواعها وألفها البصر لكثرة إدراكها. فمنها ما أصل إدراك البصر لها بمجرد الحس، ثم لكثرة تكررها على البصر صار البصر يعرفها في حال إدراكه لها، كأنواع الأضواء وأنواع الألوان، فإن البصر يعرف ضوء الشمس لكثرة تكرره عليه، ويفرق بينه وبين ضوء القمر وبين ضوء النار، وأصل إدراكه لضوء الشمس ولكل واحد من الأضواء إنما هو بمجرد الحس. ويعرف أيضاً كل واحد من الألوان المألوفة ويفرق بينها بالمعرفة لكثرة تكرر الألوان المألوفة على البصر، وأصل إدراكه لكل لون من الألوان إنما هو بمجرد الحس، كما تبين في المقالة الثانية، لأن أصل إدراكه بما هو لون. ومنها ما أصل إدراك البصر لها بالقياس والتمييز ثم لكثرة تكررها على البصر صار البصر يدركها ويعرفها في حال إدراكه لها من غير استئناف قياس وتمييز بل بالأمارات فقط. وهذه هي جميع الصور المركبة التي قد ألفها البصر وكثر إدراكه لها، كصور الحيوانات المألوفة والثمار والنبات والآلات والجمادات وسائر المبصرات المألوفات، وجميع المعاني الجزئية أيضاً التي تدرك بقياس وتمييز وتكرر في المبصرات كالأشكال المألوفة التي هي الاستدارة والاستقامة والتثليث والتربيع، وكالملاسة والخشونة، وكظل مخصوص وظلمة مخصوصة وكحسن مخصوص وقبح مخصوص، وما يجري مجرى ذلك من المعاني الجزئية التي تدرك بحاسة البصر، وجميع المعاني الكلية التي توجد في أشخاص كل نوع من أنواع المبصرات كشكل الإنسان وشكل الفرس وهيئة الشجرة وهيئة النخلة وما يجري مجرى ذلك من المعاني الكلية التي توجد في كل نوع من أنواع المبصرات. فإنه قد تبين أن إدراك البصر لهذه المعاني يكون في مبدأ النشوء بالقياس والتمييز، ثم إذا استقرت صورها في النفس صار إدراك البصر لها بالمعرفة من غير استئناف قياس وتمييز في حال الإحساس. وكذلك الصور المركبة التي يكثر تكررها على البصر إنما يدركها البصر في أول وؤيتها بالتمييز والقياس، ثم إذا تكرر إدراكها وألفها البصر صار إدراكه لها بالمعرفة من غير استئناف قياس في حال الإحساس بل بالأمارات فقط.
فأما المعاني التي يدركها البصر بالقياس والتمييز في حال الإحساس فهي جميع الصور المركبة التي لم تتكرر على البصر ولم يكثر إدراك البصر لها وجميع المعاني الجزئية التي في الأشخاص الجزئية التي قد تبين أنها تدرك بالتمييز والقياس.
فجميع ما يدركه البصر من المبصرات ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة، فجميع أغلاط البصر ينقسم إلى هذه الثلاثة الأقسام، فأنواع أغلاط البصر إذن ثلاثة: غلط في مجرد الإحساس وغلط في المعرفة وغلط في التمييز والقياس.
والمثال في الغلط الذي يعرض في مجرد الإحساس فكإدراك البصر لمبصر ذي ألوان مختلفة وتكون ألواناً قوية كالكحلي والخمري والفرفيري وما جرى مجراها إذا كان في موضع مغدر شديد الغدرة. فإن الجسم المتلون بهذه الألوان إذا كان في موضع مغدر شديد الغدرة، وليس فيه إلا ضوء يسير، فإن البصر يدرك المبصر الذي بهذه الصفة ذا لون واحد مظلم، ولا يتحقق حقيقة ألوانه. فإن لكم يكن تقدم علم الناظر بذلك المبصر فإنه يظنه ذا لون واحد أسود أو مظلم وإن كانت المعاني الباقية التي في ذلك المبصر التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال ما سوى الضوء. فيكون البصر قد غلط في إدراكه للون ذلك المبصر. فإن أدركه ذا لون واحد وهو ذو ألوان كثيرة، واللون بما هو لون إنما يدرك بمجرد الحس، فيكون هذا الغلط غلطاً بمجرد الإحساس، وتكون علة هذا الغلط هو خروج الضوء الذي في ذلك المبصر عن عرض الاعتدال بالإفراط في النقصان. لأن المبصر الذي بهذه الصفة إذا خرج من الموضع المغدر الذي هو فيه إلى ضوء معتدل، وكانت المعاني الباقية التي فيه التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال، فإن البصر يدرك ألوان ذلك المبصر مختلفة ويدرك كل واحد منها على ما هو عليه.
فأما المثال في الغلط الذي يعرض في المعرفة فكإدراك البصر لشخص إنسان من بعد بعيد ويكون ذلك الإنسان يشبه زيداً، وبالمثال، الذي يعرفه ذلك الناظر وقد ألفه. فإذا رأى الناظر ذلك الشخص من البعد ربما ظنه زيداً وليس هو زيداً، وإن كانت المعاني الباقية التي في ذلك الشخص التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال ما سوى البعد. فيكون البصر قد غلط في إدراك ذلك الشخص، ويكون غلطه غلطاً في المعرفة، ويكون علة هذا الغلط هو خروج بعد ذلك الشخص عن عروض الاعتدال. لأن الشخص إذا كان على مسافة قريبة من البصر، فليس يشتبه على الناظر صورته بصورة من قد عرفه وألفه، إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك الشخص التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال.
فأما المثال في الغلط الذي يعرض في القياس والتمييز في حال إدراك المبصر فكإدراك البصر لحركة القمر إذا كان في وجه القمر سحاب رقيق متقطع أو مختلف الصورة وكان السحاب متحركاً حركة سريعة. فإن البصر يرى القمر كأنه يتحرك حركة سريعة، وإذا أدرك القمر يتحرك حركة سريعة فهو غالط فيما يدركه من حركته، والغلط في الحركة هو غلط في القياس لأن الحركة ليس تدرك إلا بالقياس في حال الإحساس، وعلة هذا الغلط هو خروج بعد القمر عن عرض الاعتدال بالتفاوت المسرف. لأن المبصرات التي على وجه الأرض القريبة من البصر إذا تحرك في وجهها جسم مشف، فليس ترى متحركة إذا كانت المعاني الباقية التي في تلك المبصرات التي بها يتم إدراك المبصرات على ما هي عليه في عرض الاعتدال. وقد يوجد ذلك في الأجسام التي على وجه الأرض، وهي الأجسام التي تكون في الماء إذا كان الماء جارياً وكان مع ذلك صافياً. فإن البصر إذا تأمل المبصر الذي في الماء الصافي، وكان الماء جارياً، فليس يدرك ذلك المبصر متحركاً وهو يدرك القمر من وراء السحاب متحركاً.
والقياس الذي من أجله يعرض هذا الغلط هو قياس القمر إلى أجزاء السحاب. فإن السحاب إذا كان متحركاً فإن أجزاءه المسامتة للقمر تتبدل وأطراف القطع المتقطعة من السحاب يبعد بعضها عن القمر وهو ما تجاوز القمر منها ويقرب بعضها من القمر وهو المتحرك منها إلى جهة القمر. فإذا كان البصر ناظراً إلى القمر وهو من وراء السحاب وكان السحاب متحركاً حركة سريعة وكانت أجزاؤه مختلفة الصورة، فإنه يرى القمر في الحال يسامت من السحاب جزءاً بعد جزء. وإذا كان السحاب متشابه الأجزاء، فإنه إذا قاس البصر القمر بطرف قطعة بعد قطعة من السحاب المتقطع أدركه يقرب من طرف كل واحدة من تلك القطع ويبعد من طرف القطعة الأخرى، ويخرج من قطعة من السحاب ويدخل في قطعة غيرها، فيظنه من أجل اختلاف وضعه بالقياس إلى قطع السحاب وإلى أجزاء السحاب أنه متحرك. لأن البصر كذلك يدرك الأجسام المتحركة التي على وجه الأرض التي يدركها دائماً، فإنه يرى الجسم المتحرك على وجه الأرض يسامت من سطح الأرض جزءاً بعد جزء، ويبعد من جزء ويقرب من آخر، فإدراك البصر للقمر من وراء السحاب السريع الحركة متحركاً إنما هو من قياسه جزءاً من القمر إلى أجزاء السحاب التي تتبدل عليه. وظنه أن ذلك التبدل هو من أجل حركة القمر لا من أجل حركة السحاب إنما هو من أجل أن السحاب إذا كان يغشى السماء أو قطعة من السماء فليس يظهر ببديهة الحس أنه متحرك، بل إذا لحظ البصر السحاب وهو مغشي للسماء أو لقطعة من السماء فإنه يظنه في الحال ساكناً. وإنما يدرك البصر حركة السحاب إذا تأمل أطرافه أو جزءاً من أجزائه وقاسه بمبصر من المبصرات الثابتة على وجه الأرض أو بالبصر نفسه وتأمله زماناً، فإذا وجده بعد زمان محسوس قد تغير وضعه أدرك حركته، فأما في ملاحظة السحاب فليس تظهر حركته بل يظنه ساكناً. وإذا ظهر السحاب ساكناً ووجد القمر يسامت جزءاً منه بعد جزء حكم للقمر بالحركة. وهذا الغلط إنما هو من أجل تفاوت البعد، لأن المبصرات التي بهذه الصفة إذا كانت قريبة من البصر فليس يعرض فيها الغلط.
فعلى هذه الأمثلة تكون أغلاط البصر على هذه الوجوه الثلاثة. فأنواع جميع أغلاط البصر تنقسم إلى هذه الأنواع الثلاثة.

.الفصل الخامس: كيفيات أغلاط البصر التي تكون بمجرد الحس:

كيفيات أغلاط البصر التي تكون بمجرد الحس بحسب كل واحد من العلل التي من أجلها يعرض الغلط.
قد تقدم أن الذي يدركه البصر بمجرد الحس إنما هو الضوء بما هو ضوء واللون بما هو لون فقط. وإذا كان البصر ليس يدرك بمجرد الحس إلا هذين المعنيين فقط. والغلط في الضوء بما هو ضوء فليس يكون إلا في اختلاف كيفية الضوء في القوة والضعف فقط لأنه ليس يدرك البصر من الضوء بما هو ضوء إلا من إضاءة فقط. وأما اللون بما هو لون فقد تبين في المقالة الثانية أن البصر إنما يدرك منه تلوناً فقط يجري مجرى الظلمة أو مجرى الظل. والغلط في الظلمة وفيما يجري مجرى الظلمة وفي الظل وفيما يجري مجرى الظل ليس يكون إلا في اختلاف كيفيتها في القوة والضعف فقط.
وإذا كان ذلك كذلك فالغلط في اللون بما هو لون، إذا كان المبصر ذا لون واحد، ليس يكون إلا في القوة والضعف فقط. فإذا كان المبصر ذا ألوان مختلفة وكانت جميعها قوية ومتقاربة الشبه، أو كانت جميعها رقيقة ومتقاربة الشبه، فقد يدرك البصر جميعها لوناً واحداً، لأنه يدرك من جميعها إذا كانت قوية ظلمة فقط، وإذا كانت متقاربة الشبه في القوة فإنه يدرك من جميعها ظلمة متشابهة فيظنها لوناً واحداً، وإذا كانت جميعها رقيقة أدرك البصر من جميعها ظلاً فقط، وإذا كانت مع رقتها متقاربة الشبه في الرقة فإنه يدرك من جميعها ظلاً متشابهاً فيظنها لوناً واحداً.
وإذا كان المبصر مختلف الألوان وكان بعضها قوياً وبعضها رقيقاً، أدرك البصر ألوانه بمنزلة الظل والظلمة المتجاورين فيدركه البصر ذا لونين وإن كان كثير الألوان. فقد يقع الغلط بمجرد الحس في اختلاف ألوان المبصر المختلف الألوان أيضاً وتشابهها. وقد يعرض أيضاً أن يدرك البصر المبصر المختلف الألوان ذا لون واحد إذا كانت أجزاؤه المختلفة الألوان أو بعضها صغاراً في غاية الصغر، فلا يدرك البصر كل واحد منها على انفراده لصغرها، وإذا لم يدرك كل واحد من الأجزاء الصغار على انفراده لم تتميز له ألوانها، وإذا لم تتميز له ألوانها فهو يدرك جملة المبصر ذا لون واحد إذا كانت أجزاؤه المخالفة اللون للون جملته في غاية الصغر. وإن كانت أجزاؤه المخالفة اللون للون جملته بعضها صغاراً وبعضها كباراً أدرك جملة المبصر مختلفة الألوان بالاختلاف الذي في الجزاء الكبار ولم يدرك الألوان التي في الأجزاء الصغار. فقد يعرض الغلط بمجرد الحس في اختلاف الألوان من أجل صغر الأجزاء أيضاً. وليس يوجد الغلط بمجرد الحس فيما سوى هذه المعاني.
فليس يعرض للبصر الغلط بمجرد الحس إلا في الضوء بما هو ضوء وفي اللون بما هو لون. وليس يعرض الغلط في الضوء بما هو ضوء إلا في اختلاف كيفية الضوء في القوة والضعف فقط، وليس يعرض الغلط في اللون بما هو لون إلا في اختلاف كيفيته في القوة والضعف. وإذا كان المبصر ذا ألوان مختلفة فربما عرض الغلط في اختلاف ألوانه وفي عددها. فأما غلط البصر في مائية اللون فإنما هو غلط في المعرفة، لأن مائية اللون إنما تدرك بالمعرفة كما تبين في المقالة الثانية، وكذلك مائية الضوء. فغلط البصر في مجرد الحس إنما يكون على الصفات التي بيناها.
فأما كيف يكون الغلط في مجرد الحس بحسب كل واحد من العلل التي فصلناها فإنه يكون كما نصف: أما غلط البصر في مجرد الحس من أجل خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال فكالمبصر الذي يكون مقتدر الحجم ويكون ذا ألوان مختلفة ويكون كل واحد من أجزائه المتلون بلون من تلك الألوان صغير الحجم ويكون على بعد متفاوت، فإن المبصر الذي بهذه الصفة يدركه البصر ذا لون واحد مشتبه. وإذا اعتبر المعتبر مبصراً من المبصرات مختلف الألوان من بعد متفاوت فإنه يجده على ما وصفناه.
والعلة في ذلك أن البعد المتفاوت الخارج عن عرض الاعتدال بالقياس إلى جملة المبصر قد يخفى منه كل واحد من أجزائه الصغار على انفراده. فالمبصر المختلف الألوان إذا كان على بعد متفاوت بالقياس إلى جملة المبصر، وكان كل واحد من أجزائه المختلفة الألوان يخفى مقداره ويخفى كل مبصر يكون على مقداره من البعد لصغر حجمه بالقياس إلى ذلك العد، وكان مقدار جملة المبصر لا يخفى من ذلك البعد لاقتدار جملة حجمه بالقياس إلى ذلك البعد، فإن البصر يدرك جملة المبصر من ذلك البعد المتفاوت الذي يخفى منه كل واحد من أجزائه على انفرادها، وإن لم يظهر منه حقيقة صورته على تفصيلها، ولم يظهر كل واحد من أجزائه على انفرادها إذا لم يكن البعد في غاية التفاوت الذي يخفى منه جملة المبصر. وإذا أدرك البصر جملة المبصر فهو يدركه ذا لون على تصاريف الأحوال، وإذا لم يدرك كل واحد من أجزائه على انفراده لم يتميز له اختلاف ألوان الأجزاء، وإذا أدرك جملة المبصر ذا لون ولم يتميز له اختلاف الألوان التي فيه يدركه ذا لون واحد مشتبه.
فالمبصر إذا كان ذا ألوان مختلفة، وكان كل واحد من أجزائه المختلفة الألوان صغير الحجم، وكان المبصر عن البصر بعداً متفاوتاً يخفى منه كل واحد من الأجزاء على انفرادها وتخفى منه حقيقة صورة ذلك المبصر ولا تخفى منه جملة المبصر، فإن البصر يدرك ذلك المبصر ذا لون واحد وهو ذو ألوان مختلفة فيكون غالطاً فيما يدركه من لونه. واللون يدرك بمجرد الحس، فيكون هذا الغلط غلطاً في مجرد الحس، ويكون علة هذا الغلط هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال. لأن المبصر الذي بهذه الصفة إذا كان على بعد معتدل يصح أن يدرك منه البصر كل واحد من أجزائه المختلفة الألوان على انفراده، فإن البصر الناظر إليه يدرك كل واحد من أجزائه على انفرادها ويدرك ألوانها على ما هي عليه إذا كانت المعاني الباقية التي فيه التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال. فعلى هذه الصفة وأمثالها يكون غلط البصر في مجرد الحس من أجل خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال.
فأما غلط البصر في مجرد الحس من أجل خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال فكالمبصر الذي فيه ألوان مختلفة وتكون ألوانها قوية كالكحلي والخمري والمسني وما يجري مجراها ولا يكون فيما بينها شيء من الألوان المسفرة بل تكون جميعها قوية مشبعة ومتقاربة الشبه، ويكون ذلك المبصر مائلاً عن مقابلة وسط البصر ميلاً متفاوتاً وبعيداً عن سهم الشعاع، ويكون البصر محدق إليه، ويكون البصران أو البصر الواحد مع ذلك يدرك المبصر المختلف الألوان مع ميله عن وسط البصر وبعده عن سهم الشعاع، فإن البصر يدرك المبصر المختلف الألوان إذا كان على هذا الوضع ذا لون واحد. وإنما ذلك كذلك لما تبين في الفصل الأول من هذه المقالة، وهو أن المبصر إذا كان مائلاً عن سهم الشعاع ميلاً متفاوتاً فإن صورته نكون مشتبهة غير محققة ولا تتميز له أجزاؤه. ومتى اعتبر المعتبر المبصر المختلف الألوان الذي ألوانه على الصفة التي ذكرناها في الفصل الأول وجعل وضعه خارجاً عن سهم الشعاع وبعيداً عنه بعداً متفاوتاً وجده على الصفة التي ذكرناها أعني أنه يجد ذلك المبصر ذا لون واحد مشتبه. وإذا أدرك البصر المبصر المختلف الألوان ذا لون واحد، فهو غالط فيما يدركه من لونه، واللون يدرك بمجرد الحس، فيكون هذا الغلط غلطاً في مجرد الحس، ويكون علة هذا الغلط هو خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال. لأن المبصر المختلف الألوان الذي على الصفة التي حددناها إذا تحرك البصر حتى يصير سهم الشعاع عليه ويمر بكل نقطة منه، فإن البصر يدرك اختلاف ألوانه ويدرك كل واحد من ألوانه على ما هو عليه، إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك المبصر التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال. فعلى هذه الصفات وأمثالها يكون غلط البصر في مجرد الحس من أجل خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال. فأما غلط البصر في مجرد الحس من أجل خروج الضوء الذي في المبصر عن عرض الاعتدال فكالمبصر المختلف الألوان أيضاً الذي ألوانه قوية ومتقاربة الشبه إذا أدركه البصر في ضوء نار ضعيفة. فإن البصر يدرك المبصر الذي بهذه الصفة ذا لون واحد مظلم، لأن الألوان القوية إذا كانت في ضوء ضعيف فإنها تظهر مظلمة، وكل واحد من الألوان التي في المبصر المختلف الألوان الذي وصفناه يظهر مظلماً، فيظهر جميع المبصر مظلماً، فيظن الناظر أن ذلك المبصر ذو لون واحد مظلم إذا لم يكن قد تقدم علم الناظر بألوانه. وإذا أدرك البصر المبصر المختلف الألوان ذا لون واحد فهو غالط فيما يدركه من لونه، فيكون هذا الغلط غلطاً في مجرد الحس، وتكون علة هذا الغلط هو خروج الضوء الذي في المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصر الذي بهذه الصفة إذا كان في ضوء قوي أدرك البصر الألوان التي فيه على ما هي عليه إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك المبصر التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال. فعلى هذه الصفة وأمثالها يكون غلط البصر في مجرد الحس من أجل خروج الضوء عن عرض الاعتدال.
فأما غلط البصر في مجرد الحس من أجل خروج الحجم عن عرض الاعتدال فكالمبصر الذي يكون فيه مسام ووشوم ونقط مختلفة الألوان ومخالفة للون جملة المبصر، ويكون كل واحد منها في غاية الصغر وبقدر ما لا يدركه البصر لصغره، ويكون اللون الذي يعم جميع المبصر لوناً واحداً. فإن المبصر الذي بهذه الصفة يدرك البصر منه اللون الذي يعم جميعه، ولا يدرك المسام والوشوم التي تكون فيه ولا يدرك ألوانها إذا كانت في غاية الصغر وبقدر ما لا يصح أن يدركها البصر. فيدرك البصر المبصر الذي بهذه الصفة ذا لون واحد، وهو اللون الذي يعم جميعه، والمبصر مع ذلك ذو ألوان مختلفة. فيكون البصر غالطاً فيما يدركه من لون ذلك المبصر ويكون غلطه في مجرد الحس، ويكون علة غلطه هو خروج حجم كل واحد من الأجزاء المختلفة الألوان عن عرض الاعتدال، لأن تلك النقط وتلك المسام إذا كانت مقاديرها أعظم مما هي عليه فإن البصر يدركها ويدرك ألوانها ويتحقق جميع الأوان التي تكون في المبصر الذي تلك أجزاؤه إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك المبصر التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال. فعلى هذه الصفة وأمثالها يكون غلط البصر في مجرد الحس من أجل خروج الحجم عن عرض الاعتدال.
فأما غلط البصر في مجرد الحس من أجل خروج كثافة المبصر عن عرض الاعتدال فكالمبصر الذي يكون في غاية الشفيف وليس فيه من الكثافة إلا قدر يسير كالبلور الصافي النقي وكالزجاج الأبيض النقي البياض الرقيق الحجم إذا كان وراء الجسم منها وملتصقاً به جسم ذو ألوان مختلفة قوية، وكان البصر يدرك ذلك المبصر ويدرك الألوان التي تكون من ورائه، وكان مع ذلك لا يعلم أن الألوان التي يدركها هي ألوان من وراء ذلك الجسم، ولم تكن هناك أمارة يتنبه بها البصر على أن الألوان التي يدركها هي ألوان جسم آخر من وراء ذلك الجسم. فإن المبصر المشف النقي البياض الذي بهذه الصفة يدركه البصر متلوناً بالألوان التي تظهر من ورائه، ولا يحس بياضه ونقاء لونه ولا يعلم أنه ذو لون واحد. فإذا أدرك البصر المبصر المشف الأبيض ذا ألوان مختلفة فهو غلط في لونه، ويكون غلطه في مجرد الحس، وتكون علة هذا الغلط هو خروج كثافة المبصر المشف عن عرض الاعتدال. لأن المبصر إذا كانت كثافته قوية وكان شفيفه يسيراً فإن البصر يدركه ويدرك لونه، وإن كان وراءه جسم آخر متلون بألوان أقوى من لونه، ولا يخفى لونه مع الشفيف اليسير الذي يكون فيه، فلا يدركه البصر ذا ألوان مختلفة إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك المبصر التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال. فعلى هذه الصفة وأمثالها يكون غلط البصر في مجرد الحس من أجل خروج كثافة المبصر عن عرض الاعتدال.
فأما غلط البصر في مجرد الحس من أجل خروج شفيف الهواء عن عرض الاعتدال فكالمبصر الذي يدركه البصر في الدخان القوي. فإن البصر إذا أدرك المبصر في الدخان فإنه يدرك لونه ممتزجاً بلون الدخان، فإذا كان مسفر اللون أدركه البصر مظلم اللون، وخاصة إذا كان البصر خارجاً من الدخان. وإذا أدرك لون المبصر مظلماً والمبصر مسفر اللون فهو غلط في لونه، ويكون غلطه في مجرد الحس، وتكون علة هذا الغلط هو خروج شفيف الهواء عن عرض الاعتدال. لأن الهواء إذا كان نقياً صافي الشفيف أدرك البصر ألوان المبصرات التي تكون فيه على ما هي عليه إذا كانت المعاني الباقية التي في تلك المبصرات التي يتم بها إدراك المبصرات على ما هي عليه في عرض الاعتدال.
فأما غلط البصر في مجرد الحس من أجل خروج الزمان عن عرض الاعتدال فكالمبصر المختلف الألوان الذي يكون في موضع مغدر وليس بشديد الغدرة وتكون ألوانه قوية ومتقاربة الشبه. فإن البصر إذا لمح المبصر الذي بهذه الصفة في الموضع المغدر لمحة خفيفة ثم التفت عنه في الحال، فإنه يظنه ذا لون واحد ولا يحس باختلاف ألوانه في حال ملاحظته إذا كان الضوء الذي في الموضع يسيراً. وإذا ثبت البصر في مقابلة المبصر الذي بهذه الصفة زماناً متنفساً فإنه قد يدرك اختلاف ألوانه إذا لم يكن الموضع مسرف الغدرة. وإذا أدرك البصر المبصر المختلف الألوان ذا لون واحد فهو غالط في لونه، ويكون غلطه في مجرد الحس، ويكون علة غلطه هو خروج الزمان الذي فيه يدرك ذلك المبصر عن عرض الاعتدال. لأن المبصر المختلف الألوان التي بهذه الصفة إذا ثبت البصر في مقابلته زماناً متنفساً فإنه قد يدرك اختلاف ألوانه إذا كانت المعاني الباقية التي فيه التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال. فعلى هذه الصفة يكون غلط البصر في مجرد الحس من أجل خروج الزمان الذي فيه يدرك البصر المبصر في عرض الاعتدال.
فإما لم ليس يدرك البصر اختلاف ألوان المبصر المختلف الألوان إذا كان في موضع مغدر في حال ملاحظته وفي أقل القليل من الزمان فإن ذلك لأن الضوء الضعيف جداً ليس يؤثر في البصر في حال حصول الصورة في البصر، وليس يؤثر الضوء الضعيف في البصر ويحس البصر بتأثيره إلا في زمان له قدر لضعف قوة الضوء اليسير وضعف تأثيره. وإذا لم يحس البصر بالضوء الضعيف إلا في زمان متنفس فليس يحس باللون الممازج له إلا في زمان متنفس.
فأما غلط البصر في مجرد الحس من أجل خروج البصر نفسه عن عرض الاعتدال فكالبصر الذي ينظر إلى ضوء قوي ويطيل النظر إليه ثم يلتفت فينظر إلى جسم أبيض أو مسفر اللون، ويكون ذلك الجسم في ظل وضوء معتدل، فإن البصر يدرك لون ذلك الجسم مظلماً. لأن البصر إذا أطال النظر إلى الضوء القوي أثر فيه الضوء العشا، فتحصل فيه ظلمة زماناً ثم تنجلي تلك الظلمة، فإذا نظر البصر في حال تأثير الضوء فيه إلى مبصر أبيض أو مسفر اللون فإنه يجده مظلماً. وإذا أدرك البصر المبصر الأبيض المسفر اللون مظلماً فهو غالط في لونه، ويكون غلطه في مجرد الحس، ويكون علة هذا الغلط هو خروج البصر نفسه عن عرض الاعتدال. لأن البصر إذا كان سليماً من الآفات ولم يعرض له عارض يغير صورته فإنه يدرك ألوان المبصرات على ما هي عليه إذا كانت المعاني الباقية التي في المبصرات التي بها يتم إدراك المبصرات على ما هي عليه في عرض الاعتدال. وكذلك أيضاً إذا عرض للبصر مرض فأظلم البصر فإنه يدرك ألوان المبصرات مظلمة كدرة على خلاف ما هي عليه، ويكون غالطاً في ألوانها، ويكون علة غلطه هو خروج نفسه عن عرض الاعتدال بالمرض العارض له. فعلى هذه الصفة وأمثالها يكون غلط البصر في مجرد الحس من أجل خروج البصر نفسه عن عرض الاعتدال.
فقد تبين من جميع ما شرحناه من الأمثلة كيف يكون غلط البصر في مجرد الحس بحسب كل واحد من العلل التي من أجلها يعرض للبصر الغلط.